'سيّدة كركوان': المدينة البونية تُبعث من رماد الحرب إلى المسرح
في عرض مسرحي استثنائي، احتضنه ركح مهرجان الحمامات الدولي في دورته 59، مساء الإثنين 28 جويلية 2025، أُزيح الستار عن العرض الأول لمسرحية "سيّدة كركوان"، العمل الفني الذي يجمع بين الدراما، الأوبيرا، والكوميديا الموسيقية، في مغامرة بصرية وتاريخية غير مسبوقة تُخرج مدينة كركوان من صمت المتاحف إلى وهج الخشبة.
العمل، من إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بنابل، بدعم من وزارة الشؤون الثقافية ومهرجان الحمامات، وبتوقيع ثنائي الإخراج وجدي القايدي وحسام الساحلي، يُقدَّم لأول مرة على المسرح بلغة بونية أصلية، مدعومة بترجمة فورية للغتين العربية والإنقليزية، ويضمّ أكثر من أربعين ممثلا ومغنيًا وراقصًا من ولاية نابل.
ليست "سيّدة كركوان" شخصية خيالية، بل استلهام مسرحي من غطاء تابوت خشبي على شكل إنسان محفوظ في متحف كركوان، يُجسّد الإلهة عشتار، رمز الأنوثة والخصوبة وحارسة راحة الموتى الأبدية. لكن على الركح، تخرج هذه "السيّدة" من تابوتها، لا لتبكي على الأطلال، بل لتغني وترقص وتحيا الحب والحرب من جديد.
تبدأ المسرحية بمشهد غير مألوف: مجموعة من الفتيان يرقصون بعصي تنظيف على موسيقى عصرية، قبل أن تقتحم امرأة تحمل مِمْسحة المشهد، رفقة فتاة صغيرة. تقول المرأة، وكأنها تستنطق الذاكرة: "أنا أنظف، أنظف... أبحث، هل أجد دينارًا؟ وجدت كركوان!"، وتبدأ في وصف المدينة وهندستها، كأنها تستدعيها من بين الركام.
شيئًا فشيئًا، تتبدّل الأجواء على المسرح، وتتحوّل الشاشة الخلفية إلى صورة لمدينة عتيقة. يُفتح باب رمزي وتخرج منه شخصية تاريخية تعرّف بنفسها وتدعو الجمهور إلى زيارة كركوان. هنا، تنتقل اللغة فجأة إلى البونية، مع دخول تجار ومواطنين من العهد القديم، فيما تتوزع أعين الجمهور بين الممثلين على الخشبة والترجمة المعروضة على الشاشة.
ويُعدّ هذا الجزء من العرض من أبرز لحظاته، حيث يستند إلى عمل بحثي دقيق قام به فريق علمي مختص في التاريخ البونيقي، من بينهم خولة بن نور، شادية الطرودي، وأمين خماسي، الذين ساهموا في صياغة اللغة، الأزياء، والإيقاعات بما يعكس روح الحقبة بدقة.
تتوالى المشاهد الرمزية الغنية بالرموز: راقصة بلباس أصفر تحمل عصًا، تتبعها نساء مغطيات بالكامل يحملن قناني مضيئة، وتظهر على الشاشة صورة شعار تانيت، الرمز الأنثوي البوني الشهير. ثم تدخل فتاة صغيرة فيتجمّد الممثلون، وينبعث البخور التونسي في الفضاء، في لحظة مسرحية روحانية تُحاكي الطقوس القديمة.
ويظهر في المشهد التالي شخصية "الملك"، ليُتوَّج العرض بأداء أوبرالي ضخم، يجمع مختلف الشخصيات التي أطلت في لباس الملوك والنبلاء، وسط تصفيق جمهور منبهر، منقسم بين من فهم دلالات العمل مباشرة، ومن حاول ملاحقة كثافة الرموز واللغة، لكن الجميع أجمع على براعة الإخراج وجمالية الصورة.
الممثلة مريم العريض، في دور "سيدة كركوان"، تجسّد بعمق شخصية أنثوية تنبع من رماد مدينة أحرقتها الحروب، لكنها أبت أن تموت. وإلى جانبها، شارك كل من منتصر بزاز، عزيز بوسلام، نور عوينات وآخرون في إحياء شخوص منسية من تاريخ مدينة لم تُمحَ من الذاكرة.
"سيدة كركوان" تجربة إخراجية جريئة في استثمار لغة منقرضة وموروث بصري نادر، لتكون بمثابة متحف حيّ نابض بالحياة على الركح.
غسان عيادي